التعارض والترجيح في وسائل الاثبات
إن موضوع التعارض والترجيح في وسائل الإثبات ذو أهمية عظيمة في مجال القضاء لأن القاضي يقف أمام شخصين ، كل منهما يدعي الحق ، ويدعم قوله بالحجة والبرهان والدليل فإذا أراد أن يحكم لأحدهما بحجته برزت حجة الآخر ودليله حائلا دون ذلك فيخرج النزاع من صورته الأولى على المدعى به ، إلى صورة ثانية وهي النظر في الأدلة المتعارضة لفحصها والتأمل فيها والحكم عليها ، ومما يزيد الأمر تعقيدا أن معظم الأدلة ظنية ، وأنها تعتمد في غالب الأحيان على جوانب شخصية يمكن التأثير عليها، وقد تكون كلتا البينتين صحيحتين في الواقع ، ولكن هناك فارقا زمنيا بينهما بأن يكون المدعى به ملك فلان ثم صار ملك الأخر ، وهذا يحتاج إلى كد الذهن وشحذ الهمم وإمعان النظر والتفكير للوصول إلى الحقيقة، وعدم الاقتصار على ظاهر الأمر ولذلك فقد وضع الفقهاء القواعد والأسس في تعارض البينات وترجيحها، وبنوا طرق الترجيح إجمالا، وتعرضوا لها مفصلة في أبواب الفقه، فذكروا البينة الراجحة
عند الاختلاف في الأحكام الفرعية كالبينة الراجحة في النكاح وفي البيوع والشهادات والشركة و غيرها.
. وموضوع التعارض والترجيح يحتل مكانا عاليا في كتب الفقه من جهة وفي كتب الأصول من جهة ثانية مع الفارق بينهما، وهو أن التعارض في كتب الفقه هو تعارض بين وسائل الإثبات أو المرجحات الأولية، أما التعارض في كتب الأصول فهو تعارض في أدلة الأحكام التي يدرسها المجتهد ليستنبط منها الأحكام الشرعية، كما أن التعارض في أصول الفقه تعارض ظاهري بحسب ما يظهر للمجتهد عند النظر في الأدلة، ولكنه في الواقع وحقيقة الأمر غير موجود، لأنه لا يعقل وجود تعارض بين الأدلة الشرعية الصحيحة، لأنها من عند الله تعالى الذي أحكم كل شيء خلقه، فلا تعارض في الشريعة، وإنما تيسير الأحكام الشرعية على أساس واحد ومنهج قويم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزل من حكيم حميد، ولو كان الكتاب العزيز من عند غير الله لوجد فيه التعارض والاختلاف والتناقض، قال تعالى: ( أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا » سورة النساء، الآية ۸۲. فالقاضي أمام تعدد لوسائل الإثبات المقدمة في إثبات المدعى به من المتنازعين سواء أكان أحدهما مدعيا والآخر مدعى عليه أم كان كل منهما مدعيا، وحالات التعارض كثيرة وأحكامها متشعبة، وقد اختلف الفقهاء فيها، كما اختلفوا في طرق الترجيح ونقتصر البحث على التعارض والترجيح في الفقه، أما تعارض الأدلة فمحله كتب الأصول.
وسنعرض هذه الحالات في ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: في التعارض بين وسائل الإثبات وشروطه وحكمه.
المبحث الثاني: في الجمع والترجيح
المبحث الثالث: تعذر الترجيح، وموقف القاضي في ذلك.
المبحث الأول: التعارض بين وسائل الإثبات وشروطه وحكمه
التعارض لغة: التقابل والتمانع والتعادل، من اعترض الشيء: صار له عارضا كالخشبة المعترضة في النهر (3) وعرف" التهانوي" التعارض بين البينتين فقال: "وتعارض البينتين اختلافهما بأن تثبت كل منهما ما نفته الأخرى حيث لا يمكن الجمع بينهما فتتساقطان(4).
وعرفه ابن عرفة فقال: "تعرض البينتين اشتمال كل منهما على ما ينافي الأخرى"(5). فالتعارض بين البينات هو أن يقدم كل طرف في الخصومة دليلا يؤيد دعواه وينفي دعوى الآخر، بحيث لو انفرد دلیل أحدهما لحكم له به.
أنواع التعارض: والتعارض إما أن يكون ايجابيا وإما أن يكون سلبيا:
التعارض الإيجابي:
هو أن تلقي وسيلتان من وسائل الإثبات على أمر واحد بحيث تثبت كل منهما ما تثبته الأخرى، وذلك بأن يكون محل الإثبات واحدا والجهة واحدة، وإنما ياتي التعارض من اختلاف طبيعة كل وسيلة عن الأخرى، بان يجتمع الإقرار والبيئة عليه فقد اجتماع الإقرار والبينة واختلف الفقهاء في ذلك هل يقضي عليه بالبينة أم يقضي عليه بالإقرار؟
قال بعض الفقهاء: يقضي عليه بالبينة لأنه بإنكاره وإقامة البيئة عليه استحق المدعي الحكم عليه، فلا يُبطل الحق السابق بالإقرار اللاحق ولأن زيادة التعدي ( تعدي الشهادة إلى الكافة) الثابتة بالبرهان حقه فلا يؤثر فيه الإقرار اللاحق في بطلانه ( لأن الإقرار حجة قاصرة )
وقال الشافعية: يقضي بالإقرار لأن البيئة تسمع عند عدمه، فحيث وجد لم تكن اللبينة حاجة فلا يلتفت إليها.
ولأنه حجة بنفسه والبينة لا تكون حجة إلا باتصال القضاء بها فهو أقوى منها والعمل بالأقوى واجب، وقال "الماوردي الشافعي": يعتبر الأسبق منهما، قال "الخطيب الشربيني" : إن المعول على البينة حيث وجدت(6)
التعارض السلبي: يشترط في تعارض البينتين ثلاثة شروط هي:
الشرط الأول: أن يكون التعارض بين بينتين متكاملتين، لأن التعارض لا يتحقق في الشهادة مثلا إلا مع تحقق التضاد، مثل أن يشهد شاهدان بحق لزيد، ويشهد آخران أن ذلك الحق بعينه لعمرو(7)، فلا تعارض بين بينة كاملة وبينة ناقصة، لأن التعارض يعتمد على المساواة، كما أنه لا تعارض بين بينتين ناقصتين كما إذا حصل تعارض بين شاهد وشاهد أو اختلاف في شهادة الأول وشهادة الثاني، لأن التعارض يقع بين بينتين كل منهما توجب الحكم عند زوال الأخرى، ولا تعارض مع المرجحات الأولية التي سبق ذكرها في عبء الإثبات، لأن هذه المرجحات لا يعمل بها عند وجود وسيلة للإثبات، لاتفاق الفقهاء على ترجيح وسائل الإثبات على المرجحات الأولية(8).
الشرط الثاني: أن يكون التعارض بين بينتين لا يمكن الجمع بينهما، لتحقق التنافي بينهما بأن تكون كل منهما على محل واحد، وفي وقت واحد، وتكون إحداهما مثبتة الحق لشخص والأخرى تنفيه عنه وتثبته لآخر، فإذا أمكن الجمع بينهما، فلا تعارض كبينة الملك وبينة الحوز، لأن الحوز يكون عن ملك وعن غيره فيعمل بهما معا ويحكم لصاحب الملك مع إمكان الجمع بين البينتين(9).
وليس من السهل التأكد من إمكان الجمع بين البينتين، ولذلك تظهر البينات متعارضة في الظاهر، ويبحثها الفقيه أو القاضي، وتدخل في بحث التعارض والترجيح، فإذا أمكن الجمع بينهما فقد زال التعارض(10).
الشرط الثالث: أن تكون البينات المتعارضة في قوة واحدة، فإذا كانت إحداهما أقوى من الأخرى فلا تعارض، وتقدم البينة الأقوى، مثاله الشهادة وعلم القاضي، فالشهادة تفيد الظن وعلم القاضي يقيد اليقين والقطع، والقطع أقوى من الظن، ولذلك قال الفقهاء لا يحكم القاضي بخلاف علمه باتفاق، ولا يقبل الجرح والتعديل في الشهود إذا خالف علمه(11) وكذلك الشهادة والقرائن فتقدم الشهادة على القرينة إلا إذا كانت قاطعة.
والفقهاء يختلفون في الحكم على قوة كل بينة، وهل هي تساوي الأخرى أم لا كالشاهدين والشاهد والمرأتين والشاهد واليمين، وهكذا ولذلك يبحث الفقهاء هذه الأمور في التعارض والترجيح أيضا اختلافهم في الحجة القوية والحجة الضعيفة وسوف نرى ذلك في الترجيح بقوة الحجة.
حالات التعارض: يقع التعارض بين البينات في صور كثيرة وذلك كالتعارض بين الإقرار والإقرار والتعارض بين الأدلة الخطية مع بعضها، أو بين الأدلة الخطية والإقرار أو بينها وبين الشهادة والتعارض بين الشهادات وهو أهم حالات التعارض، وهو المقصود في اصطلاح الفقهاء عند الإطلاق.
حكم التعارض: إذا ظهر التعارض بين البينات فقد اختلف الفقهاء في موقف القاضي من ذلك على قولين:
القول الأول:
إذا تعارضت البينات في الدعوى فليلجا القاضي أولا إلى الترجيح فإن تعذر الترجيح فيجمع بينهما، وذهب إلى ذلك الحنفية جريا مع قواعدهم في تعارض الأدلة في أصول الفقه في الترجيح ثم الجمع(12). واستدلوا على ذلك بما يلي:
1_البينة حجة في الشرع، والراجح ملحق بالمتيقن في الأحكام فيعمل به(13).
2_إذا ترجح أحد الدليلين على الآخر فلا تتحقق المعارضة أصلا ولا ترجيح، لأن الترجيح مبني على التعارض، والتعارض مبني على التماثل، وعند الترجيح فلا تماثل ولا تعارض وإنما يعمل بالأقوى ويترك الأضعف لكونه في حكم العدم بالنسبة إلى الأقوى(13).
ويعترض عليه بأن التعارض إنما هو من حيث الظاهر، وقد تحقق التعارض بين الأقوى والأضعف من حيث الظاهر، وإذا زال التعارض الظاهري بقي معنا دليلان صحيحان ويجب العمل بالراجح وعن ترك الراجح خلاف المعقول والإجماع (14).
ويعتبر عليه أن العمل بالراجح وإن ترك الراجح الحقيقي واجب عقلا، ولا يصح تركه أما في التعارض الظاهري فلا ترجيح وإنما يجب اعتبار الاثنين معا.
القول الثاني:
إذا تعارضت البينات في الدعوى فيلجأ القاضي إلى الجمع بينهما، فإن تعذر الجمع لجأ القاضي إلى الترجيح.
وذهب إلى ذلك جمهور الفقهاء في المذاهب الأخرى، جريا مع قواعدهم في تعارض الأدلة في أصول الفقه في الجمع ثم الترجيح(15).
واستدلوا على ذلك بان العمل بالدليلين خير من إعمال أحدهما وإهمال الآخر، لأن الأصل في أصول الفقه في الدليلين إعمالهما، فإن تعذر إعمالهما فنعمل بالراجح.
والراجح القول الثاني، لأن التعارض ظاهري فإذا أمكن رفع التعارض ظهر أمامنا بينتان صحيحتان كل منهما توفرت فيها الشروط وانتفت الموائع، فيجب العمل بها، ولا يصبح تركها بلا مسوغ، وقد أمكن إعمال كل منهما فوجب الجمع أولا، ولأن الواجب أن تحمل البينات على السلامة ويعمل بها معا ويحكم بالصحة، فإن تعذر الجمع وتحقق التعارض من كل وجه وأثبتت كل منهما ما تنفيه الأخرى فلنلجا إلى الترجيح.
وتختلف صور الجمع بين البينات، كما أن طرق الترجيح كثيرة جدا، وتختلف من حالة إلى أخرى، ولذلك ندرسها في المبحث التالي.
المبحث الثاني: الجمع والترجيح بين البينات
المطلب الأول: الجمع بين البينات
اتفق الفقهاء على جواز الجمع بين البينات سواء أكان الجمع بعد اشتباه التعارض الظاهري كما يقول الجمهور أم بعد تعذر الترجيح بينها كما يقول الحنفية.
والجمع بين البينات هو التوفيق بينهما(16)، وذلك بإعمال كل منهما فيما أثبتته من كل وجه إذا أمكن، فإن تعذر العمل بها من كل وجه وأمكن العمل بها من وجه وجب العمل بها لأن العمل بدليلين واجب بقدر الإمكان(17).
وقال الحنفية: إن القسمة هي إعمال للبينات من وجه دون وجه، ولذلك يشترط في العمل بالدليلين أن يكون المحل يقبل ذلك وإلا فلا يجمع، كالاختلاف في نکاح امرأة فإذا برهن الاثنان نكاحها تهاترت البينتان لتعذر العمل بها، لأن المحل لا يقبل الاشتراك، وإذا تهاترت البينتان فرق القاضي بينهما حيث لا مرجح، ولا شيء عليهما، أما إذا برهنا بعد موتها، فإنه يقضي بالنكاح بينهما، وعلى كل واحد منهما نصف المهر، وهما يرثان میراث زوج واحد وإن جاءت بولد يرث منهما ويرثان منه عند الحنفية(18).
وإذا أمكن الجمع بين البينات فلا تعارض بينهما، كبينة شهدت للمدعي بالملك،
وأخرى شهدت للمدعى به بالحوز، لأن الحوز يكون عن ملك وغيره فيعل بهما معا ويقضي لذي بينة الملك، وكذا شهدت بينة أنه أسلمه هذا الثوب في مائة إردب وشهدت أخرى أنه أسلمه ثوبين غيره في مائة لزمه الثياب الثلاثة في مائتين، ويحملان على أنهما سالمان (۱۹) وكما شهدت بينة أنه طلق الكبرى وشهدت أخرى أنه طلق الصغرى، فإنه يجمع بينهما ويقع طلاق الاثنين(20).
ويمكن الجمع بين البينات بأن نحمل كلا منها على جهة، كأن يتنازع اثنان دارا وكل منهما يضع يده على تصفها، وأقام كل منهما بينة على ملكيته لكامل الدار فإنه يقضي لكل منهما بما في يد الآخر.
المطلب الثاني: الترجيح بين البينات
تعريف الترجيح بين البينات:
الترجيح في اللغة: التفصيل والتقوية والميل(21).
وفي الاصطلاح: عرفه الجرجاني بقوله: "و إثبات مترتبة في أحد الدليلين على الآخر" (22).
وعرفه التهانوي بقوله: هو جعل الشيء راجحة أي فاضلا غالبا زائدا، ويطلق مجازا على اعتقاد الرجحان، وفي اصطلاح الأصوليين هو بيان الراجح وإثباته، والرجحان زیادة أحد المثلين المتعارضين على الآخر وضعا ومعنی قولهم وضعا أن الترجيح يقع بما لا عبرة له في المعارضة - فكان بمنزلة الصوف التابع للمزيد عليه ... وخرج بهذا القيد الترجيح بكثرة الأدلة كحديث وقياس، وحديثان أو قياسان، وإن ذهب إليه بعض أصحاب الشافعي وأبو حنيفة"(23). واتفق الفقهاء على ترجيح إحدى البينات على الأخرى عند التعارض بينهما، ويطبق الترجيح سواء أكان التعارض بين البينات أصلية كتعارض بينة المدعي وبيئة المدعى عليه عند الجمهور الذين يقبلون البينة من المدعى عليه، أم كان التعارض في أصلي وإنما هو تعارض مفترض شكلي كتعارض بينة المدعى عليه لبينة المدعى عند الحنفية والحنابلة، فإنهم لا يقبلون من أنكر(24)، ومع ذلك فكثيرا ما يشتبه المدعي والمدعى عليه أو يكون كل منهما مدعيا ومدعى عليه فيحق لكل منهما تقديم البينة فتعارض البينتان.
وطرق الترجيح لا تدخل تحت حصر، وتختلف باختلاف الدعوى وموضوعها، فطرق الترجيح في الأموال كثيرة، ومنها ترجيح اليد وبالنتاج، وطرق الترجيح في النكاح كثيرة ومنها التاريخ أو الدخول أو الإقرار مع إحداها، وطرق الترجيح في النسب كثيرة، ومنها القيافة وطرق الترجيح في العقود كثيرة، ومنها التاريخ والتفصيل وذكر السبب والقبض وهكذا(25).
إن بعض طرق الترجيح تستعمل في جميع الحالات وباختلاف الدعاوی كالترجيح بقوة الدليل وذلك لأن سبب الترجيح قائم في البينة ذاتها، وبعض الطرق يستعمل في حالات دون أخرى أو في حقوق دون أخرى.
ويمكننا أن نعدد على سبيل المثال أهم طرق الترجيح وهي الترجيح باليد والتاريخ والنتائج والسبب الأقوى والخارج والزيادة في الإثبات، وزيادة العلم وقوة الحجة والعدالة، كما ترجح بيئة الأصالة والصحة والطوع والرشد والعسر والعدالة والحرية على الفرع والمرض والإكراه والسفه واليسر والجرحة والرق(26). وقد يتفق الفقهاء على اعتبار أحد الأسباب مرجحا ويتخذون منه مبدأ في الترجيح ولكنهم يختلفون في اعتباره أصلا وغيره تبعا أو فرعا أو استثناء، مثال ذلك الترجيح باليد وترجيح بيئة الخارج، فقال بهما جميع الفقهاء، غير أن الحنفية والحنابلة ومن معهم يقولون أن ترجيح بينة الخارج هو الأصل، وعند التعذر فيرجح باليد، وقال المالكية والشافعية والحنابلة في وجه: عن ترجیح بيئة ذي اليد هو الأصل، وعند التعذر ترجيح بينة الخارج، كما سنرى تفصيله في الترجيح باليد، ومثل الترجيح بالتاريخ فقال به جميع الفقهاء، ثم اختلفوا في الحالات والصور التي يعتمد فيها كل مذهب على الترجيح بالتاريخ السابق أو اللاحق أو البيئة المؤرخة على غيرها أو العكس وسنستعرض بعض المرجحات التي اختلف فيها الفقهاء، ونفردها بالبحث والدراسة والمناقشة نظرا لأهميتها وشهرة الخلاف فيها وهي الترجيح بزيادة العدد، والترجيح بقوة الحجة والترجيح بالعدالة، والترجيح باليد.
أولا: الترجيح بزيادة العدد :
إذا تعارضت البينتان، وكانت إحداهما تزيد في عدد الشهود عن الأخرى فإن زيادة العدد يتحقق في ثلاث صور هي:
1_ أن يبلغ عدد الشهود حد التواتر في إحدى البينات دون الأخرى فترجع البيئة الأولى بزيادة العدد باتفاق، لأن التواتر يفيد العلم واليقين فيترجح على الظن باتفاق.
2_ أن بلغ عدد الشهود حد التواتر في البينتين، ويزيد عدد إحداهما على الأخرى، فلا ترجح الأولي بزيادة العدد باتفاق، لأن كلا منهما يفيد العلم القطعي، فيتحقق التعارض بينهما لأنهما بقوة واحدة، والعدد لا يزيد العلم القطعي عن غيره، وهذه الصورة لا يمكن وقوعها كما يقول علماء الأصول لأنها تؤدي إلى التنافي (27).
۳/ أن يكون عدد الشهود في كل منهما أقل من حد التواتر، وزاد العدد في إحداهما عن الأخرى، وقد اختلف الفقهاء في الترجيح بزيادة العدد فيها على قولين (28).
القول الأول: أن البينة لا ترجح بزيادة العدد، فإذا كانت بيئة الأول شاهدين وبينة الثاني ثلاثة شهود أو أربعة فالشهادتان متعارضتان، ولا ترجع إحداهما على الأخرى، ذهب إلى ذلك الحنفية والشافعية والحنابلة في المشهور والمالكية في المشهور والزيدية والإباضية في قول(29) واستدلوا على ذلك بثلاثة أدلة:
أولا: أن الترجيح يكون بقوة الدليل لا بكثرته، والترجيح يكون بتابع لا بمستقل بالتأثير فالكثرة لا تصلح للترجيح، ولذلك لا ترجيح الآية بالآية ولا الخبر بالخبر وإنما يرجح بقوة فيه بأن يكون أحدهما متواترا والآخر أحادا، فالقوة وصف في المتواتر وكل دليل مستقل بإيجاب الحكم يعارض كل دليل من الجانب الآخر، ولو كان متعددة ويسقط الكل عند عدم المرجح أو يستعملان معا على الخلاف في ذلك(30).
ثانيا: أن الشارع الحكيم حدد نصاب الشهادة الموجب للحكم، فشهادة الاثنين علة كاملة موجبة للحكم، وكذلك الأكثر من اثنين، فالكثرة لا تصلح للترجيح(31).
ثالثا: قال ابن حزم: إن الله تعالى قال: ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ) سورة النساء، الآية 59، فعند التعارض يجب الرجوع إلى القرآن والسنة، ولم يأمر الله تعالى قط بالرجوع إلى الأكثر والشذوذ هو خلاف الحق، ولو أنهم أهل الأرض، كما أن الله تعالى وصف أهل الفضل بقوله ( وقليل ما هم ) سورة ص الآية ۲4 فالعبرة لوجود الحق وليس لكثرة الأشخاص (32).
القول الثاني: إن البينة ترجح بزيادة العدد وكثرة الشهود ، فإن شهد لأحدهما أربعة شهود عدول وشهد لآخر شاهدان عدلان ترجحت شهادة الأربعة وحكم له بذلك. ذهب إلى ذلك بعض المالكية والإمامية والإباضية والشافعية في قول والحنابلة في قول و الحنفية في قول، وهو مروي عن عطاء والحسن وعلي بن أبي طالب (24). واستدلوا بما يلي :
1_ قياس الشهادة على الرواية، بجامع أن كلا منهما إخبار، والخبر أو الرواية يترجح بزيادة العدد فكذلك الشهادة (35). واعترض عليه بأنه قياس مع الفارق، لأن الرواية يقبل فيها خبر الواحد بالاجتهاد فيرجح بالزيادة للاطمئنان، ويعمل بأرجح الظنين أما الشهادة في ذات نصاب محدد بالنص، فصار الحكم متعلق به دون اعتبار الظن، يؤيد ذلك أنه لو شهد النساء منفردات
لا تقبل شهادتهن وإن كثرن بحيث يصبح الظن بشهادتهن أغلب من شهادة الذكرين(36).
2_ تعتبر الشهادة غلبة حجة الظن بالمشهود به وإذا كثر العدد كان الظن به أقوى والكثرة تزيد الظن بالحكم، وأن الظنين فصاعدا أقوى من ظن واحد، والقلب أميل إلى قول الأكثر والعمل بالأقوى واجب فيترجح (37).
واعترض عليه بان الشارع لم يعتبر زيادة الظن ولم يعول عليها، لأن الشارع حدد تصاب الشهادة وناط الحكم بعدد معين، واكتفى بالظن الذي يفيده هذا العدد في الإثبات، فلا معنى للقول بأن شهادة ثلاثة مثلا تفيد ظنا أقوى من الاثنين.
والراجح ما ذهب إليه جمهور الفقهاء وهو عدم الترجيح بكثرة العدد لقوة أدلتهم ولما يترتب على الترجيح بكثرة العدد من المشقة والحرج في إحضار العدد الكبير ، ولما يترتب عليه من مفاسد وفتح باب التزوير يجلب الأعداد الكثيرة في شهادة الزور، وكلا الأمرين مرفوع في الشريعة.
ويتفرع عن الاختلاف في الترجيح بزيادة العدد الاختلاف في الترجيح بشاهدين على شاهد وامرأتين أو بشاهد وامرأتين على شاهد ويمين، وهذا يؤدي بنا إلى بحث الترجيح بقوة الأدلة
ثانيا: الترجيح بقوة الحجة
لا شك أن قوة الحجة وسيلة للترجيح في الإثبات، فالشهادة أقوي في الإثبات من اليمين والإقرار أقوى من الشهادة، والإقرار أو الشهادة أقوى من القرائن، غير أن الفقهاء يختلفون في تحقق القوة في وسيلة دون أخرى كما سبق في فصل قوة الإثبات وتضرب مثالين في هذا الخصوص وهما بيئة الشاهدين مع بین
الشاهد والمرأتين، وبينة الشاهد أو الشاهد والمرأتين مع بينة الشاهد واليمين، وقد اختلف الفقهاء في قوة الإثبات في هذه الوسائل، فمن جعلها في قوة واحدة قال يتحقق التعارض بينهما، ومن فاوت بينها في القوة جعل التعارض بينها شكلية فتترجح إحداهما على الأخرى بقوة الدليل، ولا يتحقق فيها التعارض، لأنه يشترط في التعارض أن تكون الأدلة في قوة واحدة (38) ونبحث كلا منهما على حده.
المسألة الأولى: تعارض الشاهدين مع الشاهد والمرأتين
إذا قدم الخصمان بينتين، وكانت إحداهما شاهدين، والثانية رجلا وامرأتين فيما تجوز فيه شهادتهما. فاختلف الفقهاء في تحقق التعارض و الترجيح على قولين: القول الأول: أن بيئة الشاهدين ترجح على بينة الشاهد والمرأتين ولا يتحقق التعارض بينهما ذهب إلى ذلك أكثر المالكية(39).
واحتجوا بأن بينة الشاهدين أقوى من بيئة الشاهد والمرأتين كما سبق في فصل قوة الإثبات لأن البينة الثانية احتياطية: وتقبل عند فقد الأولى لقوله تعالى: { فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} البقرة، الآية ۲۸۲، فجعل الله مرتبة الرجل والمرأتين عند عدم الشاهدين فكانت شهادة الرجلين أصلا، والثانية فرعا، ولا يلجأ إلى الفرع إلا عند فقدان الأصل.
ويرجح الشاهدان على الشاهد والمرأتين ما لم يكن الشاهد الذي مع المرأتين أعدل فيقدم هو والمرأتان على الشاهدين باتفاق أصحاب الإمام مالك بينما اختلفوا في حالة كون الشاهد مع اليمين أعدل من الشاهدين، كما سنرى في المثال الثاني(40).
القول الثاني:
أن بيئة الشاهدين لا ترجح على بينة الشاهد والمرأتين، وإنما يتحقق التعارض بينهما، ذهب إلى ذلك الحنفية والشافعية وبعض المالكية والحنابلة والإمامية والزيدية (41) واستدلوا بالآية الكريمة السابقة ، قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } سورة البقرة الآية ۲۸۲ إلى قوله تعالى: { واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} سورة البقرة الآية ۲۸۲ فالله تعالى خاطب بهذه الآية الكريمة المستشهدين وأمرهم بالإشهاد لتوثيق البيوع والحقوق، فالشخص مخير في إشهاد رجلين أو رجل وامرأتين، فمن أشهد منها فهو حجة له أمام القاضي، ويلزمه الحكم بها فالآية خطاب للمستشهدين وليس للقضاة والحكام، والبينتان في قوة واحدة ف لا ترجح إحداهما على الأخرى.
ويظهر ترجیح قول الجمهور، لأن كلا من الشاهدين والشاهد والمرأتين بينة كاملة وحجة صحيحة ووسيلة كافية في الإثبات باتفاق الفقهاء، فلا ترجع إحداهما على الأخرى إلا بامر أخر.
المسالة الثانية: تعارض الشاهدين أو الشاهد والمرأتين مع الشاهد واليمين
اختلف الفقهاء في ترجيح الشاهدين والشاهد والمرأتين على الشاهد واليمين عند التعارض على قولين:
القول الأول: أن بينة الشاهدين والشاهد والمرأتين ترجح على بينة الشاهد واليمين ويقضي لصاحب البينة الأولى، وإن الشاهد واليمين لا يعارض الشاهدين.
ذهب إلى ذلك المالكية والشافعية في قول وبعض الزيدية والحنابلة في الوجه الأصح والإمامية(42)، لأن البينة الأولى متفق عليها والبينة الثانية مختلف فيها، ولأن اليمين قوله لنفسه والبينة الكاملة شهادة الأجنبيين، فيجب تقديمها على يمين المنكر، ولأن التهمة متوجهة إلى اليمين، وإن بينة الشاهد واليمين نقصن عن الكمال يبعث على الحكم بها في الاضطرار دون الاختيار(43).
قال الخرشي: فإنه يرجح بالشاهدين على الشاهد واليمين ولو كان الشاهد أعدل أهل زمانه وهذا عند مطرف وابن الماجشون إذ من أهل العلم من لا يرى الحكم باليمين مع الشاهد وقال ابن القاسم: إذا كان أعدل من كل واحد منهما حكم به مع اليمين (43). وقال الشافعية بالترجيح إذا لم يكن لصاحب الشاهد واليمين يدٌ، وإلا قدم على الأصح للاعتضاد باليد المحسوسة، والقول المقابل للأصح التعارض(45).
القول الثاني: عدم ترجيح بينة الشاهدين أو الشاهد والمرأتين على بينة الشاهد واليمين وتكون البينتان متعارضتين.
ذهب إلى ذلك الشافعية في قول والقاسمية من الزيدية والحنابلة في وجه والإمامية في قول(46) لأن كلا منهما حجة صحيحة كاملة مقبولة شرعأ، و تساويتا في إثبات المال ولأن العمل بالظني واجب في كل منها فاستوى العمل بهما، كتعارض الرجلين مع الرجل والمرأتين.
ويجري الخلاف السابق في تعارض الشاهد واليمين مع الرجل والمرأتين. (47) كما يجري الخلاف في تعارض الشاهدين أو الشاهد والمرأتين عند القائلين (48).
ويرجح القول الأول في تقديم الشاهدين أو الشاهد والمرأتين على الشاهد واليمين ضرورة أن الحجة الكاملة تقدم على الحجة القاصرة، ولا يتحقق التعارض بينهما لاختلافهما في القوة.
ثالثا: الترجيح بزيادة العدالة(49)
إذا تداعی رجلان شيئا في يد آخر، وأقام كل منهما بينة، وكانت إحداهما أكثر عدالة فاختلف الفقهاء في الترجيح بزيادة العدالة على قولين:
القول الأول: أن زيادة العدالة لا ترجع إحدى البيتين المتعارضتين على الأخرى .
ذهب إلى ذلك الشافعية والحنفية والحنابلة في الأصح والزيدية والظاهرية ومالك في رواية كما قال ابن عبد السلام(50).
واستدلوا على ذلك بأربعة وجوه:
1_ أنهما بينتان كاملتان، وهما متساويتان في إثبات الحق، وكل منهما علة تامة فلا موجب لترجيح إحداهما على الأخرى(51).
2_ أن العدالة ليست بذي حد، فلا يقع الترجيح بها(52).
3_ أن المطلوب شرعا هو عدالة الشهود مع النصاب، فإذا توفرت العدالة في كل منهما فلا فضل لأحدهما على الأخرى، كما يلزم من الترجيح بالعدالة قبول شهادة الشخص الواحد إذا كانت عدالته بقوة شخصين، وهذا لم يقل به أحد، فلو أفضل صحابي بطلاق مثلا فلا يقضي بذلك، ولو شهد به رجلان عدلان من عامة الناس قضی به(53).
4_ قياس الشهادة على الدية بجامع أن كلا منهما مقدر بالشرع، فكما أن الدية لا تختلف من شخص إلى آخر، ولو اختلف الأشخاص فضلا وعدالة وسنأ وغنى... فكذلك الشهادة لا تختلف من عدل إلى أخره(54).
القول الثاني: أن زيادة العدالة ترجع إحدى البيتين على الأخرى ويحكم بها.
ذهب إلى ذلك المالكية والإمامية والإباضية والحنابلة في قوله(55).
واستدلوا على ذلك بما يلي:
1_ قياس الشهادة على الرواية بجامع أن كلا منهما خبر فكما ترجح رواية | الأعدل فترجع شهادة الأعدل كذلك (56).
واعترض عليه بان الشهادة تفترق عن الرواية، لأن الشارع حدد نصاب الشهادة فيتبع أما الرواية فلم يحدد فيها النصاب ويؤخذ فيها بارجح الظنين(57).
2_ إن زيادة العدالة تقوي غلبة الظن بالمشهود به، فيكون الظن أقوى، والعمل بالأقوى أولى(58). واعترض عليه بان المفروض في الشهادة الولي توفر العدالة الكاملة الموجبة للحكم وزيادتها في الثانية لا توجب الترجيح.
3_ إن زيادة العدالة بمثابة زيادة عدد الشهود، وهو سبب للترجيح، واعترض عليه بعدم الترجيح بزيادة العدد، فكذلك زيادة العدالة.
وبعد اعتبار المالكية أن زيادة العدالة تعتبر من المرجحات اختلفوا في الحكم بالبيئة الراجحة بمقتضى هذا الترجيح فذهب أكثر المالكية إلى تحليف صاحب البينة الراجحة العدالة بناء على أن زيادة العدالة كشاهد واحد، فكان البينتين تعارضتا وتساقطا، وبقية زيادة العدالة بمثابة شاهد، ويحلف مع البينة بناء على أن زيادة العدالة كشاهدين فلا يحلف معهما(59).
كما اختلفوا في الترجيح بزيادة العدالة في غير الأموال فقال أكثر المالكية إن الترجيح بزيادة العدالة خاص في الأموال ونحوها من كل ما يثبت بالشاهد واليمين دون غيرها مما لا يثبت إلا برجلين كالطلاق والنكاح والحدود، لأن زيادة العدالة بمنزلة الشاهد الواحد على المشهور وهو المنصوص عليه في المدونة. وقال بعض المالكية يرجح بزيادة العدالة في غير الأموال أيضا كالأموال، بناء على أن زيادة العدالة بمنزلة شاهدين(60).
وزيادة العدالة المعتبرة في الترجيح هي عدالة الشهود أما إذا كان المزكي في إحدى البينتين أعدل من مزكي الأخرى فلا تعتبر عند ابن القاسم وابن الماجشون، واعتبره مطرف(61).
ويبدو ترجیح قول الجمهور بعدم الترجيح بزيادة العدالة لقوة دليلهم، ولأن زيادة العدالة ذات صفات شخصية ترتبط بين الإنسان وربه.
رابعا: الترجيح باليد
المراد بذلك وضع اليد على متاع أو عقار، لأن وضع اليد قرينة على ملك المنقول أو العقار لصاحب اليد حتى يظهر خلاف ذلك، وصاحب اليد بسمی الداخل، ومن يدعي شيئا في اليد الداخل يسمى خارجة، ولذلك يستعمل الفقهاء في التعارض والترجيح اصطلاحي: بينة الداخل وبينة الخارج(62). وإن وضع اليد يلعب دورا كبيرا في الإثبات ويكون له أثر في الأحكام ويعتبر المنط في نظر الدعوى، وفي تقديم الإثبات ويحكم به، وفي التعارض والترجيح، وقد اتفق الفقهاء على بعض أحكام الترجيح باليد واختلفوا في بعضها.
وإن اختلاف الفقهاء في تعارض بينة الداخل وبينة الخارج وترجيح إحداهما على الأخرى هو فرع من اختلافهم في عبء الإثبات وتكليف المدعي والمدعى عليه به وتوزيعه عليهما(63).
الأمور المتفق عليها:
1_ اليد الصحيحة دليل الملك حتى يثبت عكسه، لأن اليد تدل على الملك في الظاهر وصاحب اليد هو المدعى عليه، لأن المدعى عليه من يوافق قول الظاهر، والمدعي خلافه وتعتبر اليد هي الأساس في معرفة المدعي والمدعي عليه، لإلقاء عبء الإثبات على الأول دون الثاني في ابتداء الدعوى.
2_ اليد مرجح أولي في الإثبات عند فقد البينات.
3_ إذا ادعى شخص عينا في يد أخر، وليس له بينة، فلا يحكم له، وتبقى العين في يد صاحبها باتفاق الفقهاء(64).
4_ إذا تداعي اثنان عينا في يد ثالث، وليس لهما بينة، فإن كان صاحب اليد يدعيها لنفسه فيحكم له بذلك باتفاق الفقهاء(65).
وإن كان لا يدعيها فإما أن تقسم بينهما كالتي بأيديهما أو يقرع بينهما وتعطي لمن قرع، مع يمينه في القسمة والقرعة(66).
أما إذا أقر بها لأحد المدعين، فيقضي للمقر له، ويعتبر إقراره مرجحة للدعوى، لأن المدعي في يده وملكه من حيث الظاهر فيملك التصرف فيه بالإقرار وغيره ويصبح المقر له هو صاحب اليد. وكذلك الحال إذا قدما بينتين متعارضتين فتسقطان وتبقى العين في يد الحائز أو لمن يقر له(67) وإنا أقر لأحد المتنازعين، وليس لهما بينة، فيأخذه المقر له بدون پمين، وإن كان لهما بيئة يأخذه المقر له مع اليمين، وينزل إقراره منزلة اليد للمقر له(68).
ثم حصل اختلاف بين الفقهاء في تحليف المقر المدعي الثاني على نفس استحقاقه أو نفي علمه بحقه فيها على قولين. أما إذا أقر لأحدهما بدون تعيين فيقر بينهما. وقال الحنابلة من فرع له يأخذها مع يمينه في قول، وفي قول آخر بدون يمين ونص أحمد أنه عليه اليمين، واستدل بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلين تداعيا عينة لم تكن لواحد منهما بينة فأمرهما النبي ص لى الله عليه وسلم أن يستهما على اليمين أحيا أو كرها(69).
5_ إذا ادعى شخصان عينة في يدهما وقال كل منهما أنها ملكه دون صاحبه، ولم تكن لهما بينة، حلف كل منهما لصاحبه وجعلت بينهما نصفين، لأن بد كل منهما على نصفها والقول قول صاحب اليد مع يمينه، وإن نكلا عن اليمين فهي بينهما قضاء ترك، لأن كل واحد منهما يستحق ما في يده عند بعض الفقهاء أو يستحق ما في يد الأخر بنكوله عند آخرين، وإن نكل أحدهما وحلف الآخر قضى له بجميعها إما باليمين واليد وإما باليمين والنكول(70).
6_ إذا ادعى شخصان عينا في يدهما وأقام كل منهما بينة أنها ملكه دون صاحبه وتعارضت البينتان، فيجري عليهما حكم التعارض بأن تسقط البينتان وتبقى العين في يدهما، أو تستعمل البينتان وتقسم بينهما، أو يقرع بينهما(71).
7_ إذا ادعى شخصان عينا في يد أخر وأحضر كل منهما بينة على دعواه فهنا تتعارض البينتان باتفاق ولا ترجع إحداهما على الأخرى باليد ويتحقق التعارض.
الصورة المختلف عليها:
أما الصورة المختلف عليها فهي أن يدعي شخص عينا في يد آخر، ويحضر بيئة على ملكه فينكر المدعى عليه ذلك، وهو صاحب اليد الظاهر، ويقيم بينة على حقه وملكه فهل يتحقق التعارض بين بينة المدعي وبينة المدعى عليه؟ أو بين بينة الخارج وبينة الداخل؟ وهل تقدم بينة أحدهما على الآخر أم لا؟ اختلف الفقهاء على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن بينة الداخل (المدعى عليه ) تقدم على بينة الخارج ( المدعي ) ويكون الترجيح باليد. ذهب إلى ذلك المالكية والشافعية في رواية(72)، والأصل عندهم : ترجيح بيئة الداخل إلا إذا كانت بيئة الخارج ترجع عنها بزيادة العلم والانتقال و غيره أو كان التنازع في سيب اليد.
القول الثاني: أن بيئة الخارج "المدعي" تقدم على بينة الداخل "المدعى عليه" ذهب إلى ذلك الحنفية والحنابلة في المشهور عندهم والزيدية والظاهرية وعبد الملك من المالكية والإمام(73). فالأصل تقديم بينة الداخل ذي اليد، لتحقيق أسبقية اليد من الخارج بينه كالنتاج.
القول الثالث: أن الداخل والخارج متعارضان، ولا ترجيح إحداهما على الأخرى ويقرع بينهما. ذهب إلى ذلك بعض الحنابلة(74)، وعيسى بن أبان، والقاسم من الزيدية وذلك لأن اليد مقوية لبينة الداخل فتساوت مع بينة الخارج فحصل التعارض.
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول على الترجيح باليد، أي على ترجيح بينة الداخل على بيئة الخارج بما يلي:
1_ روی الشافعي رضي الله عنه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن الرجلين تداعيا دابة، فأقام كل واحد منهما البينة أنها دابته نتجها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي هي في يديه(75).
وجه الدلالة: أن البينين تعارضتا، وإذا تعارضت البينتان فكأنها سقطت وصارت كالعدم وكان وجود الدابة في يد أحدهما مرجحا له فحكم له.
والحديث يدل على البيئة في النتاج، ويقاس عليه غيره سواء كانت البينة على ملك مطلق أو مقيد بسبب.
2_ روى الدار قطني عن جابر أن رجلين تداعيا دابة، وأقام كل واحد منها بينة أنها دابته فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي هي في يده.
وجه الدلالة: أن تعارض البينتين هنا عام ولم يقيد بالنتاج، ورغم أن الحديث ضعيف فإنه يتقوى بالرواية السابقة، أو يؤكد عموم الرواية السابقة وعدم تقييدها بالنتاج.
3_ الترجيح باليد هو استواء الاثنين في إقامة البينة وترجحت بيئة صاحب اليد، باليد كالخبرين اللذين مع أحدهما قياس فيقضي له بها بشرط أن بينة الداخل لا تسمع إلا بعد سماع بينة المدعي الخارج.(77).
4_ إن بينة الداخل تعارضت مع بيئة الخارج فسقطت البينتان، وأصبحت الدعوى بدون بينة والأصل عند عدم البينة أن يحكم بالمدعى به إلى صاحب اليد، وهو بمعنى الترجيح بإيقائه بيد الحائز، وليس ترجيحة للبينة لسقوطها(78).
أدلة القول الثاني:
استدل أصحاب القول الثاني على ترجيح بينة الخارج على بينة الداخل بما يلي:
1_ أن بيئة صاحب اليد غير مسموعة، لأن الله تعالى لم يكلفه بينة، وإنما حكم الله تعالى على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه، قال عليه الصلاة والسلام: "بينتك أو يمينه، ليس لك غير ذلك". وهذا يدل على أن لا يلتفت إلى بينة المدعى عليه، والتحقت ببنته بالعدم، وبقيت بينة الخارج بلا معارض فوجب العمل بها، لأنه جعل جنس البيئة في جنية المدعي فلا تبقى في جنية المدعى عليه بينة(79).
ويعترض عليه بأن الحديث لا يمنع قبول البينة من المدعى عليه، كما أن المدعى عليه يطالب لنفسه بقاء اليد فتكون بينته مشروعة لأنه طالب(80).
2_ أن بينة الخارج أظهرت له سبق الملك فكان القضاء بها أولی، لأنه لما ثبت له الملك واليد في العين في زمان سابق، ولم يعرف لثالث فيها يد وملك علم أنها انتقلت من يده فوجب إعادة يده ورد المال إليه حتى يقيم صاحب اليد الآخر الحجة أنه انتقل إليه بخلاف النتاج لأنه لم يسبق للخارج لانعدام تصور السابق والتأخير فيه، لأن النتاج مما لا يحتمل التكرار فيطلب الترجيح من وجه آخر فتترجح بيئة صاحب اليد باليد في النتاج(81). ونلاحظ أن هذا القول يعتمد ترجيح بينة الخارج على يده السابقة فرض، بينما ينكر يد المدعي عليه الثابتة حقيقة وواقعا. .
3_البينة من أجل الإثبات، وبينة المدعى عليه لا تثبت شيئا، وإنما تشهد للظاهر الثابت فلا تقبل هذه البينة(82)، وبينة المدعي أكبر فائدة فوجب تقديمها كتقديم بينة الجرح على التعديل ودليل فائدتها أنها تثبت شيئا لم يكن، وبينة المنكر إنما تثبت ظاهرا تدل اليد عليه فلم تكن مفيدة.
ولأن الشهادة بالملك يجوز أن يكون مستندها رؤية اليد والتصرف فإن ذلك جائز عند أهل العلم فصارت البينة بمنزلة اليد المنفردة فتقدم عليها بينة المدعي كما تقدم على اليمين(83).
ويعترض عليه بأن بينة المدعى عليه لا تسمع ابتداء، ولكن بعد إقامة البينة من المدعي فإن بينته فيها فائدة وتثبت صحة الملك (74).
حالات عدم ترجيح بينة الخارج:
1_النتاج : إذا تنازع اثنان في يد أحدهما، وأقام كل منهما بينة أنها ملكه نتجت عنده فترجح بيئة صاحب اليد في النتاج، لانعدام تصور السبق والتأخير في ملك النتاج ولأن النتاج لا يحتمل التكرار فبطل الترجيح من وجه آخر فتترجح بينة صاحب اليد باليد، ولحديث جابر السابق. ويقاس على النتاج كل حالات سبق الملك الذي لا يتكرر(85)، وهذا باتفاق المذاهب في القولين السابقين في النتاج، وسبب الملك الذي لا يتكرر كالنسيج في الثياب التي لا تنسج إلا مرة كالثياب القطنية وغزل القطن وحلب اللبن والجبن واللبد وجز الصوف وإن كان سببا يتكرر لا يكون في معناه ويجري فيه الاختلاف السابق، وإن أشكل في كونه مما يتكرر أم لا يرجع إلى أهل البصرة.
2_ الملك بالشراء من بعضها والتاريخ : ادعی شخصان ملك عين بيد أحدهما، وأن كلا منهما ملكهما بسبب الشراء من خصمه، وأقاما البينتين ووقتاهما، ووقت الخارج أسبق، فإن لم يذكروا قبضا، يقضي بالدار لصاحب اليد عند أبي حنيفة وأبي يوسف وعند محمد يقضي للخارج، وقال: لأن وقت الخارج إن كان أسبق جعل كأنه اشترى الدار أولا ولم يقبضها حتى باعها من صاحب اليد، وبيع العقار قبل القبض لا يجوز عند محمد، وإذا لم يجز بقي على ملك الخارج، وعندهما ذلك جائز فصح البيعان.
ولو ذكروا القبض جاز البيعان ويقضي بالدار لصاحب اليد عند الثلاثة لأن بيع العقار بعد القبض جائز بلا خلاف فيجوز البيعا(86). وإن كان وقت صاحب اليد أسبق ولم يذكروا قبضا يقضي بها للخارج(87).
3_أقام الخارج بينة بالملك المطلق والداخل بالشراء منه تقدم بينة ذي اليد(88).
4_ اليد والشراء من ثالث : إذا تعارضت بينتان على دار يسبب الشراء، وهي بيد أحدهما فإن أدعية الشراء من واحد، فصاحب اليد أولى، سواء أرخ أو لم يؤرخ، وسواء ذكر الشهود القبض أو لم يذكروا، لأن القبض من صاحب اليد أقوى لثبوته حسا ومشاهدة، وقبض الآخر لم يثبت إلا ببينة تحتمل الصدق والكذب، فكان القبض المحسوس أولى، فصار الثابت بالحس أولى من الثابت بالخبر ومن التاريخ أيضا، وكذا إذا ادعيا الشراء من اثنين ووقت صاحب اليد أسبق فهي له(89). ويظهر ترجیح قول الجمهور في الترجيح باليد، لأننا قبلنا البيئة من المدعى عليه مع بيئة المدعي، فتعارضنا وتقدم بيئة المدعى عليه باليد، ولأنه عند تعارض البينات فيجب ترك المتنازع به مع صاحب اليد، وهذا يؤدي إلى استقرار المعاملات والاطمئنان على الأموال والأملاك.
اليمين مع الترجيح :
إذا ظهر التعارض بين البينات ثم ترجحت إحدى البينات بسبب من أسباب الترجيح فقد اختلف الفقهاء في وجوب اليمين مع البيئة الراجحة أم لا من قولين:
القول الأول: أنه يقضي لصاحب البينة الراجحة من غير يمين فلا يحلف صاحبها معها لأن البينة الراجحة صحيحة موجبة للحكم بها منفردة، كما لو لم يعارضها شيء، لأن البينة الراجحة قائمة لم تسقط، وإنما سقطت البينة المرجوحة. ذهب إلى ذلك الشافعية في الصحيح والحنابلة والحنفية.(90)
القول الثاني: أنه لا يقضي لصاحب البينة الراجحة إلا باليمين، ذهب إلى ذلك المالكية والشافعية في قول، لأن البينات إذا تعارضت سقطت، ويكون الرجحان بالتاريخ أو اليد أو العدالة أو العدد في تقوية أحد الجانبين على الآخر، واليمين مشروَعة في أقوى الجانبين ويتحقق الترجيح باليمين(91) .
المبحث الثالث: تعذر الترجيح بين البينات وموقف القاضي
إذا تعذر الجمع بين البينات وتعذر الترجيح بطريق من طرق الترجيح فقد تحقق التعارض بين البينات واختلف الفقهاء في النظر إلى البينات المتعارضة على قولين:
القول الأول: أن البينات المتعارضة تسقط ولا تستعمل
ذهب إلى ذلك الحنفية والمالكية والشافعية في قول و الحنفية في رواية). وذلك لأن البينة لإثبات خلاف الظاهر وكشف الخفي و بيان صاحب الحق فإذا عارضتها بينة أخرى ومنعت تحقيق ذلك فقد بطل الهدف منها فتسقطان وتصبح الدعوى مجردة عن البينات ويعالج القاضي الموضوع كما لو كانت الدعوى جديدة بدون بينة فيلجا إلى المرجحات الأولية التي يستخدمها عند فقدان وسائل الإثبات.
فيرجح قول أحد الخصمين باليد في نزاع على دابة مثلا، أو يحكم بظاهر الحال المبني على أصل الدين في الذمة، أو ظاهر الحال المبني على عرف كتحديد المهر وتقسيمه إلى معجل ومؤجل، أو ظاهر الحال المبني على نص شرعي كإيمان اللعان في قذف الزوجة، وقبول الأمين، والتحالف من كل منهما(93).
وإن تعارض البيتين يشبه تعارض الدليلين ولا مرجح فتسقطان، وتصبح الدعوى بدون بينة وبين البينات المتعارضة تكذب بعضها بعضا، يؤدي إلى التناقض بين موجب كل منهما (94). ونضرب لذلك بعض الأمثلة:
1_ إذا كان المتنازع فيه بيد أحدهما، وأقاما بينتين متعارضتين، كأن يقيم كل منهما بينة على نتاج دابة وهي في يد أحدهما، ووقتهما واحد، فتسقط البينتان وتبقى الدابة في يد صاحبها(95).
2_ إذا كان المتنازع فيه بأيديهما معا، وأقاما بينتين متعارضتين، سقطتا، لأنه ليس أحدهما أولى من الأخر(96)، وقال الحنابلة والحنفية والشافعية في قول يحلف كل منهما يمينا على النصف المحكوم له به، لأن البينتين لما تعارضتا من غير ترجيح وجب إسقاطهما كالخبرين، وإذا سقطا صار المختلفان كمن لا بينة لهما، ولأن اليمين يجب على الداخل وكل منهما داخل في النصف الذي حكم له به(97)، وقال الحنفية والمالكية والحنابلة في قول الشافعية في قول لا يحلفان وتبقى العين بينهما بدون يمين، لما ورد في الحديث عن أبي موسى أن رجلين اختصما في دابة وأقام كل منهما بينة أنها له فحكم رسول الله ص لى الله عليه وسلم بها نصفين(98)، فلم يرد ذكر اليمين، ولأن كل بينة راجحة في نصف العين والبيئة الراجحة يحكم بها بدون يمين(99).
3_ إذا كان المتنازع فيه بيد ثالث، وأقام كل منهما بينة، وتعارضت البينتان وامتنع الترجيح سقطت البينتان ويبقى المتنازع فيه في يد حائزة إذا كان يدعيه لنفسه (100). وقال الشافعية يحلف لكل منهما يمينة على أنها له، فإذا رضيا يمينا واحدة فلا تقبل في الأصح عند الشافعية، وفي قول تقبل(101). أما إذا كان لا يدعيها لنفسه، وأقرانه لا يملكها وسقطت البينتان فقال الحنابلة يقترع الاثنان على اليمين، كما لو إذا لم يكن لهما بينة فمن خرجت قرعته حلف وأخذ لأن البينين تعارضتا من غير ترجيح لإحداهما على الأخرى فسقطتا كالخبرين(102) وقال الحنفية لا يعتبر إقراره لأنه تضمن حق المتخاصمين الثابت بالبينة فكان إقرارا على الغير فلا يصح ويلحق بالعدم(103).
أما إذا أقر بها لأحدهما فيعمل بإقراره ويحكم بها له(104)، وينزل إقراره منزلة اليد للمقر له ويظهر ذلك في تنازع اثنين نكاح امرأة وأقرت لأحدهما، أما إذا أقر بها لواحد منهما لا يعرفه بعينه، قال الحنابلة يقرع بينهما ويخلف من خرجت له القرعة.
القول الثاني: أن البينات المتعارضة تستعمل ولا تسقط
ذهب إلى ذلك الشافعية والحنابلة(105).
واستدلوا إلى أنه يجب صيانة البينات عن الإلغاء بقدر الإمكان. ثم أختلفت الروايات والأقوال في طريقة استعمال البينات المتعارضة على ثلاثة أراء:
الرأي الأول: القسمة بين أصحاب البينات: ذهب إلى ذلك الشافعية في قــول والحنابلة في رواية، كما قال بالقسمة عند الجمع بين البينات أو سقوطها أو عند فقد البينات الظاهرية والإمامية و الحنفية والزيدية(106).
الرأي الثاني : القرعة بينهم : فمن خرجت قرعته أخذ المدعى به. ذهب إلى ذلك الحنابلة في قول الإمامية(107).